kInG NeMo
عدد المساهمات : 38 تاريخ التسجيل : 23/08/2013
| موضوع: افتراضي حكم صيام يوم الشك[تابع لمسابقة قدوتي النبي محمد صلى الله عليه وسلم] الجمعة أغسطس 23, 2013 9:17 pm | |
| عن عمّارِ بنِ ياسِر رضي الله عنه قال :
« مَنْ صَامَ اليَوْمَ الذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ »،
ذكره البخاري تعليقا
الحديثُ أورده البخاريُّ قال : باب قول النّبيّ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم :
« إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا »،
وقال صِلَةُ عن عَمَّار : « مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِم ».
قال الحافظ : "وصِلَةُ بنُ زُفَر كُوفِيّ عَبْسِيّ من كبار التابعين وفضلائهم" .
والحديث وَصَلَه الخمسة من طريق عَمرِو بنِ قَيْس عن أبي إسحاق عن صِلة.
ولفظ الحديث عند أبي داود وابن ماجه : « مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ ... »،
وعند الترمـذي وابن خُزَيمة : « مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الذِي يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ... »،
وقال الترمذي : "حديث عمّار حديثٌ حسنٌ صحيح "، وصحّحه ابن
خزيمة وابن حبّان والحاكم ووافقه الذهبي، وقد تعقّب صاحب "الإرواء"
تصحيح الحديث : "بأنّ عَمرَو بن قَيس لم يحتجّ به البخاري،
وأبو إسحاق هو عمرو ابن عبد الله السبيعي، وهو ـ وإن كان ثقة ـ فقد كان اختلط بآخره،
كما في "التقريب"، وقد رماه غيرُ واحد بالتدليس، وقد رواه مُعَنْعَنًا، غيرَ أنّ له طريقا أخرى يتقوّى بها" ،
قال ابنُ حجر : "وله متابع بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق منصور عن رِبْعيِّ،
ورواه عبد الرزّاق من وجه آخر عن منصور عن رِبْعيِّ
عن رجل عن عمّار، وله شاهد من وجه آخر أخرجه إسحاق بن راهويه من رواية سماك عن عِكْرِمة ".
كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ بْنِ يَاسِرٍ فَأُتِيَ بِشَاةٍ مَصْلِيَةٍ،
فَقَالَ : كُلُوا، فَتَنَحَّيَ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقَالَ : إِنِّي صاَئِمٌ
، فَقَالَ عَمَّارُ : « مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ ... »
، وفي لفظِ ابن أبي شيبة : " إِنَّ عَمَّارًا وَنَاسًا مَعَهُ أَتَوْهُمْ بِمَسْلُوخَةٍ
مَشْوِيَّةٍ فِي الْيَوْمِ الْذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ رَمَضَانُ أَوْ لَيْسَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاجْتَمَعُوا وَاعْتَزَلَهُمْ رَجُلٌ،
فَقَالَ لَهُ عَمَّارُ : تَعَالَ فَكُلْ، قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ،
فَقَالَ لَهُ عَمَّارُ : إِنْ كُنْتَ تُؤمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ اْلآخِرِ فَتَعَالَ فَكُلْ "
هو الصحابي أبو يَقظان عمّارُ بنُ ياسر ابنِ عامر بنِ مالك العَنْسِيُّ،
ثمّ المَذْحِجِيُّ القحطانيُّ نَسَبا، المخزوميُّ حِلْفا ووَلاءً، وهو أَحَدُ السابقين الأوّلين والأعيانِ البَدْرِيِّين
، كان هو وأبوه وأمّه سُمَيَّةُ وإخوتُه من السابقين الأوّلين المعذَّبِين في الله،
شهد عمّارُ سائرَ المشاهدِ مع النّبيِّ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم ،
وكان مخصوصا منه بالبِشارة والترحيب والبَشاشة والتَّطْيِيب، له
فضائل وأحاديث عِدَّة، ومن فضائله
قوله : « عَمَّارُ مُلِئَ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشَه »
،وفيه نزل قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِاْلإِيمَانِ }،
وقد ولاّه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه الكوفة، وكتب إليهم :
" إنّه من النُجَباء الرفقاء، فاعْـرِفوا قَدْرَه "،
قُـتِل رضي الله عنه بـصِفِّين سنة (37 هـ ـ 657 م)، وكان من أصحاب عليّ رضي الله عنه.
ـ مَصْلِيَة : مَشْوية .
ـ تَنَحَّيَ : صار إلى ناحية، أو تجنّب الناس وصار في ناحية منهم، بمعنى ابتعد واعتزل.
ـ مَسْلُوخَة : الشاة التي سُلِخ عنها الجلد .
يمكن أن نُجمِل الفوائد والأحكام المستخرجة من حديث الباب ومن سبب وروده على ما يأتي :
1°) ظاهر الحديث أنّه موقوف لفظا مرفوع حكمًا، حيث إنّ فيه دلالة
على تحريم صومِ يومِ الشكّ بالإسناد واللزوم، لأنّ العصيان لا يكون إلاّ
بفعل ما نهى النبيّ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم أو بترك ما أمر به، فيكون
حديث عمّار رضي الله عنه مُسنَدًا باللزوم، وليس موقوفا، لأنّ معنى
العصيان له لازم من خارج، وهو فعل ما نهى عنه النبيّ صَلَى الله
عَليْهِ وسَلَم أو ترك ما أمر به ، فحينئذ عند فهم مدلول اللفظ من
اللفظ ينتقل الذهن من مدلول اللفظ إلى لازمه عقليا، ولو تعذّر
الانتقال لاستحال فهم اللازم.
قال ابن عبد البرّ : " هذا حديث مسند عندهم لا يختلفون في ذلك " .
ومعناه مستفاد ـ أيضا ـ من أحاديث النهي عن استقبال رمضان بصومٍ
وأحاديث الأمر بالصوم لرؤية الهلال .
2°) لفظ الشكّ في الحديث يَحتَمِل أن يكون الشكّ فيه من شعبان
أو أن يكون من رمضان، أي أنّه أوّل
يوم من رمضان أو آخر يوم من شعبان غير أنّ لفظ أبي داود يدلّ على أنّه من
شعبان، ويُبَيِّنُه بقوله :
« مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ ... » الحديث، وبقوله : « أَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ ».
3°) المراد من يوم الشكّ هو يومُ الثلاثين من شعبان، إذا حال دون
مَطْلَع الهلال في ليلته قَتَرة أو غيم أو ساتر أو نحو ذلك، وعند مَن
أوجب صوم الثلاثين بنية من رمضان عند عدم رؤية الهلال بساتر،
فإنّه لا يُسَمِّي يومَ الثلاثين يومَ الشكّ، بل هو يوم من رمضان من
طريق الحكم، وهو مذهب أكثر الحنابلة ، وعلى هذا الرأي فلا يتوجّه
النهي عن صوم يوم الشكّ إليه، وهذه المسألة سنتعرّض لها في
"فقه الحديث".
4°) فيه فائدة الإتيان بالموصول في قوله : « الْيَوْمَ الْذِي يُشَكُّ فِيهِ »
، ولم يَقُل : " يومَ الشكّ "، مبالغة في أنّ صومَ يومٍ فيه أدنى شكّ
سبب لعصيان صاحب الشرع، فكيف بمن صام يومـًا الشكُّ فيه قائمٌ
ثابت ؟ أفاده الطيبي، وقال : " ونحوه { وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الْذِينَ ظَلَمُوا }
، أي الذين أُونِسَ منهم أدنى ظلم، فكيف بالظلم المستمرِّ عليه ؟
" . ولا يخفى وقوع لفظ « يَوْمَ الشَّكِّ » في طرق كثيرة.
5°) فيه فائدة تخصيص ذكر كنية النبيّ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم
، للإشارة إلى أنّ النبيّ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم يقسم أحكام الله بين
عـباده زمانا ومكانا وغير ذلك ، وفيه ـ أيضا ـ استحباب التكنّي وتكريم المكنّى والتنويه به.
6°) يُستفاد من مفهوم الحديث جوازُ تقدّم رمضان بما قبل يوم الشكّ
بصوم النفل المطلق، غير أنّ هذا المفهوم ثبت من منطوق حديثي
أبي هريرة رضي الله عنه ما يُخصِّص الجواز بالنهي
في قوله : « لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ ... » ،
وبقوله : « إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ ».
وهذه الأحاديث مُخصَّصة بالاستثناء الوارد في حديث أبي هريرة الأوّل
بقوله : « إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ »،
أي يوافق صوما معتادا ، وعلى معنى هذا الاستثناء يُلحَق به القضاء
والنذر إلحاقا أَوْلويا لوُجوبهما، ذلك لأنّ الأدلّةَ قطعيةٌ على وجوب
القضاء والوفاء بالنذر، إذ تقرّر ـ أصوليا ـ أنّ القطعيّ لا يُبطَل بالظنّي ولا يعارضه .
7°) فيه دليل على عدم جواز التشريع في أمور الدين لأحد سوى الله
تعالى، ووجوب المحافظة على شرعه، والاحتياط في أمر العبادات،
لكيلا يؤدّيَ صيامُ يومِ الشكّ إلى اعتقاد أنّ الزيادة على شهر رمضان
أمر مُساغ ومُستحسَن، الأمرُ الذي يفضي إلى فتح باب مفاسد
عظيمة والكذب على الله فيما شرع على نحو ما فعلت بعض الأمم
السابقة الذين زادوا في مدّة صومهم .
8°) تكمن حكمة النهي عن صيام يوم الشكّ في أنّ الحكم عُلِّق
بالرؤية، فمن تقدّمه فقد حاول الطعن في ذلك الحكم،
قال الحافظ : "وهذا هو المعتمد".
9°) يُستفاد من حكم الرفع في الحديث جواز رواية الحديث بالمعنى
، لكون اللفظ موقوفا، وجواز رواية الحديث بالمعنى للعالم بما يحيل
المعنى وما لا يحيله هو مذهب جمهور السلف والخلف من
المحدّثين وأصحاب الفقه والأصول بشرط أن لا يكون المرويّ ممّا يُتَعَبَّد
به، أو من جوامع كَلِمِه .
10°) من سبب ورود الحديث يظهر معنى إكرام الضيف وخدمته
والتواصي بالحقّ والتناصح على البرّ والتقوى والتزام حدود الشرع بما
نهى عنه وأمر به.
اختلف العلماء في حكمِ صومِ يومِ الشكّ على مذاهب،
يمكن حصرُها في مذهبين مشهورين، وهما :
مذاهب العلماء 1 ) تحريم صومِ يومِ الشكّ من رمضان ويجوز صيامه ما سوى ذلك ، وهو ما عليه أكثر الصحابة وجمهور الفقهاء وغيرهم.
2°) التفصيل : ووجهه وجوبُ صومِ يومِ الشكِّ إن حال دون مَنظَره غيمأو قتر،
ويجزئ إن كان من شهر رمضان، وإن كانت السماء مُصْحِيةً لم يَجُز
صومُه، وبهذا قال الإمام أحمد في أشهر الروايات الثلاث عنه ،
وأكثر شيوخ المذهب على هذا الرأي كالخِرَقيِّ وغيره، وهو مذهب
مرويّ عن عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة ومعاوية وعائشة
وأسماء ابنتي أبي بكر رضي الله عنهم.
أدلّة الفريقين
نستعرض أدلّة الجمهور أوّلا، ثمّ نتبعه بأدلّة جمهور الحنابلة ثانيا،
أدلّة الجمهور :
اسـتـدلّ الجمهور بالأحاديث وآثـار الصحابة الآتية ذكرها على الترتيب التالي :
1 ـ بحديث الباب الذي تظهر دلالته صريحة في تحريم صيام يوم الشكّ على ما تقدّم.
2 ـ بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :
« نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم عَنْ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ : الْيَوْمِ الْذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ الأَضْحَى، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ »
، والحديث كسابقه يصرّح بالنهي عن صوم يوم الشكّ، والنهي يقتضي التحريم أصوليا .
3 ـ بالأحاديث القولية والفعلية الدالّةِ على النهي عن استقبال رمضان بصوم، وأحاديث الأمر بالصوم برؤيته، منها :
- حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعا :
« لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلاَثِينَ » .
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا :
« صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ » ،
وفي رواية لمسلم : « فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمُ الشَّهْرُ فَعُدُّوا ثَلاَثِينَ ».
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا :
« لاَ تَقَدَّمُوا صَوْمَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ » .
- حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعا :
« لاَ تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ قَبْلَه أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ قَبْلَهُ » .
- أمّا الفعلية فبحديـث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :
« كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لاَ يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ، ثَمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلاَثِينَ يَوْماً ثُمَّ صَامَ » .
4 ـ بحديث عبد الله بن جراد عن النبيّ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم قال :
« أَفْطِرُوا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ يَصُومُ هَذَا الْيَوْمَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، لأَنْ أُفْطِرَ يَوْماً مِنْ رَمَضَانَ يَتَمَارَى فِيهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَصُومَ يَوْماً مِنْ شَعْبَانَ لَيْسَ مِنْهُ » .
5 ـ أمّا آثار الصحابة فبقول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال :
" لو صُمْتُ السَّنَة كلَّها لأفطرتُ اليومَ الذي يُشَكُّ فيه " ،
وفي رواية : " أنّ ابن عمر أمر رجلا يفطر في اليوم الذي يُشَكُّ فيه "
، وهو مذهب مرويٌّ ـ أيضا ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ، وحكاه ابن
المنذر أنّه مذهب عمرَ بنِ الخطّاب وعليٍّ وابنِ عبّاس وابنِ مسعود وحذيفةَ وأنسٍ وأبي هريرة وغيرِهم .
وفي مصنّف ابن أبي شيبة عن كلّ من عمر وعليّ ـ رضي الله عنهما ـ : أنّه كان إذا حضر رمضانُ فيقول :
" أَلاَ لاَ تَقَدَّمُوا الشهرَ، إذا رأيتم الهلالَ فصوموا، وإذا رأيتم الهلال فأفطروا، فإن أُغْمِيَ عليكم فأتمّوا العدّة " .
فهذه الأحاديث والآثار دالّة على منع صيام يوم الشكّ، وأنّ المتقدِّم
عن صوم رمضان قبل رؤية الهلال مخالف للسنّة الثابتة وما عليه أكثر الصحابة وعوام أهل المدينة .
أدلّة جمهور الحنابلة :
استُدِلّ للرواية المشهورة عن الإمام أحمد بالحديث والآثار والقياس، وتظهر أدلّتهم على الوجه التالي :
1 ـ بحديث عِمرانَ بنِ حُصَيْن رضي الله عنه أنّ النبيّ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم قال له أو لرجل آخر وعِمْران يسمع :
« أَمَا صُمْتَ سَرَرَ شَعْبَانَ ؟ » قال : لا، يا رسول الله، قال :
« فَإِذاَ أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ » .
والحديث صريح في إفادةِ صِحّةِ صومِ يومِ الشكِّ لأنّ المراد من " سَرَر الشهر "
: آخره، وسمّيت بذلك لاستسرار القمر فيها فلا يظهر، وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين .
2 ـ وبمقتضى حديث أمِّ سَلَمة :
« أَنَّ النَّبِيَّ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم كَانَ يَصُومُهُ » أي يوم الشكّ .
3 ـ وبحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ النبيّ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم قال :
« إِنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ » .
ومعنى الحديث : ضيِّقوا عدّة شعبان بصوم رمضان، بتقديره تحت
السحاب، بحيث يكون له عدد يطلع في مثله، وذلك يكون لتسع
وعشرين، ويشهد لمعنى التقدير قولُه تعالى :
{ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } ، وقولُه تعالى: { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَّشَاءُ وَيَقْدِرُ } .
ويؤكّد هذا المعنى آثار الصحابة، فمن ذلك :
أ/ تفسيرُ ابنِ عمر للحديث بفعله، فقد حكى نافع عنه :
" أنّه كان إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر فإن رأى
فذاك، وإن لم يَرَ ولم يَحُلَّ دون مَنْظَرِه سحاب ولا قتر أصبح مفطرا، وإن
حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما " ،
والرجوع إلى فهمِ الصحابيِّ ابنِ عمر أولى لكونه أعلم بمراد الحديث،
فالراوي أعلم بما روى، ولذلك رجعنا إلى فعله في إثبات خيار المجلس .
بـ/ ما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال:
" لأَنْ أصوم يوما من شعبان أحبُّ إليّ مِن أن أفطر يوما من رمضان ".
جـ/ وروى البيهقي عن عائشة وأسماء بنتي أبي بكر مثله ، كما روى مِن رواية أبي مريم عن أبي هريرة قوله :
" لأَن أصوم الذي يشكّ فيه من شعبان أحبُّ إليّ من أن أفطر يوما من رمضان " .
4 ـ أمّا القياس فيتمثّل وجهه فيما يلي :
أ ـ إنّه إذا جاز صيام يوم الشكّ تطوّعا حال اقترانه بسبب فَلأَنْ يجوز
صيامه فيما يحتمل كونه فرضا من باب أولى.
ب ـ كما أنّه يلحق بالصلاة في أوقات الكراهة فيما إذا أوقع فرضا أو ذا
سبب بجامع كونهما عبادتين طبيعتهما متقاربة، تبطلان بفعل شيء من مبطلاتهما
يُرَدُّ سبب الخلاف في هذه المسألة إلى ما يأتي :
1) في فهم معنى " التقدير " في قوله :
« صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ »،
هل يقتضي التفرقة بين الصحو والغيم، فيكون التعليق على الرؤية
متعلّقا بالصحو، وأمّا الغيم فله حكم آخر، وهو حمله على معنى
التضييق، وبه قال أكثر الحنابلة، أو أنّه لا يقتضي التفرقة بينهما
ويكون الثاني مؤكِّدا للأوّل، وبه قال الجمهور.
2) وفي قوله : « فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلاَثِينَ »
هل هذه الكناية ترجع إلى أقرب الجملتين أو إلى الجملتين معًا ؟
3) في تعيين يَومِ الشكِّ : أهو آخر يوم من شعبان ـ أي : يوم الثلاثين
ـ ؟ وبه قال الجمهور، أو هو أوّل يوم من رمضان ؟ وبه قال أكثر الحنابلة.
4) في تعارض آثار الصحابة، ومدى الاحتجاج بعمل الراوي بخلاف ما
روى (أي هل العبرة بما رواه الصحابي أو بما رآه ؟).
ففي هذه المسألة فإنّ مذهب الجمهور لائحٌ من عدّة وجوه، وهي :
1 ـ إنّ الإجمال الحاصل في قوله : « فَاقْدُرُوا لَهُ »
محمول على الروايات الأُخَرِ المفسِّرةِ والمصرِّحةِ بالمراد، فلا تكون
روايةُ مَن روى « فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ » مخالفةً لِمَن روى :
« فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ »، بل مبيّنةً لها، ويؤيِّد ذلك حديث ابنِ عبّاس مرفوعا
: « فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ، وَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اِسْتِقْبَالاً »
، وغيرُه من الأحاديث التي تقدّمت، وهو ما فسّر به مالك ـ رحمه الله ـ اللفظ المحتمل ،
"قاعدة أصولية : المجمل يحمل على المفسّر اتّفاقا" وحَمْلُ الْمُجْمَل
على الْمُفَسَّر طريقةٌ لا خلاف فيها بين الأصوليّين، لأنّه لا تعارض
بينهما أصلا .
2 ـ ولقوله : « لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ »
وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها،
ولفظ : « فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ » الذي أوقع للمخالِف شبهةً
مَدْفوعةً بالقواعد التي تقتضي بأنّ أيَّ شهرٍ غُمّ أُكْمِل الثلاثين،
سواء في ذلك شعبان ورمضان وغيرهما، إذ لم يَخُصَّ شهرا دون شهر
بالإكمال، فلو كان شهر شعبان غير مراد لبيّنه، لذلك يرجع
قوله : « فَاقْدُرُوا لَهُ » أو : « فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ » إلى الجملتين
السابقتين، وهما : « صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ »، أي :
إذا غُمّ عليكم في صومكم أو فطركم فأكملوا العدّة ثلاثين،
3 ـ وبناء على ما تقدّم فلا يلزم اضطرابا ولا تعارضا في الخبر الذي رواه
البخاري من حديث شعبة عن محمّد بن زياد عن أبي هريرة مرفوعا
بلفظ : « فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ »،
وما رواه مسلم من حديث سعيد ابن المسيّب عن أبي هريرة مرفوعا
: « فَصُومُوا ثَلاَثِينَ يَوْماً »، لأنّ الأمرَ عائدٌ على صورتي الصوم والإفطار
في حالة الغمّ علينا، فذكر الراوي في إحدى الروايتين إحدى الصورتين
وفي الرواية الأخرى الصورة الأخرى، وجاءت عبارةُ بعضِ الرواياتِ
متناولةً لهما، ففي رواية مسلم : « فَعُدُّوا ثَلاَثِينَ »، وفي رواية له ـ أيضا ـ : « فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ »، وعليه يتحقّق الجمعُ والتوفيقُ، وينتفي التعارُضُ، فلا يُصارُ إلى
الترجيح لِمَا فيه من إهمالٍ للرواية الأخرى وإهدارٍ لها.
أمّا ما ذكره الإسماعيلي فغير قادح في صحّة الحديث، لأنّ النبيّ صَلَى الله عَليْهِ وسَلَم
إمّا أن يكون قد قال اللفظين، وهذا ما تفيده ظاهرُ الرواية، وإمّا أن يكون قال أَحَدَهما
وذكر الراوي اللفظَ الآخرَ بالمعنى لعودة الأمر في قوله : « فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ » للشهرَيْن المتمثِّلَيْن في شعبان عند قوله في الجملة الأولى :
« صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ »، وإلى رمضان في الجملة الثانية:
« وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ »، هذا مقتضى القواعد التي دلّت عليه أحاديث هذه المسألة .
4 ـ ولأنّ المقرَّرَ في الأصول : " أنّ الصحابة إذا اختلفوا فليس بعضُهم
حجّةً على البعض الآخر ولا على مَن بعدهم، وعليه فلا يجوز العمل
بأحد القولين إلاّ بترجيح "، ويَتَرَجَّحُ مَن معه الحجّة، والحجّة فيما رواه
الصحابي ونَقَلَه لا فيما رآه واجتهد فيه، وعلى تقدير العكس فإنّه قد
روى الحديثَ غيُر ابنِ عمر وهم أكثر عددا وروايةً وعملا، وقد جاء في باب الترجيح من علم الأصول : " أنّ كثرة الرواة من المرجّحات باعتبارالسند "
، وكذلك كثرة الأدلّة ـ على التحقيق ـ، وهو مذهب الجمهور.
5 ـ ولأنّ الروايات الصحيحة التي اسْتُدِلَّ بها تشهد على صحّة
مذهبهم من ناحية تَضَمُّنِها الاحتياطَ ، فما كان كذلك فهو أولى
بالتقديم على غيره لكونه أقرب إلى تحصيل المصلحة ودفع المفسدة.
"فتح الباري" لابن حجر : 4/120.
"النهاية" لابن الأثير : 3/50.
"مختار الصحاح" للرازي : 309.
"سبل السلام" للصنعاني : 2/308.
"تبيين الحقائق" للزيلعي : 1/317.
"المغني" لابن قدامة : 3/91.
"نيل الأوطار" للشوكاني : 5/256. | |
|